جوزيف نادج).. رقص معاصر على «نشيد الصباح الصغير» من مسرح الفقراء!!
«قال لي أحدهم إن الموسيقا هي روح الرقص، لكنني صماء... أسمع فقط موسيقا جسدي» بهذه الكلمات اختتمت الصغيرة «يمي وانغ» لوحتها الراقصة لتشير إلى جزء مهم من أدوات الرقص المعاصر وهو الموسيقا الداخلية المتفردة للراقص. لذلك سيبدو من الصعوبة بمكان تحديد الأشكال التي سيصل إليها هذا الاتجاه في الرقص، حيث المساحات الشاسعة لتفجر الإبداع والابتكار، بتحيزه المعلن للحسي والفردي الخاص الذي سيقترح أشكالا لا متناهية من التعبير، والذي كان منذ بداية العشرينيات ثورة على كل الأشكال التقليدية من الرقص كالباليه، في تشكيلاتها القطيعية بما يخص الأداء الذي يكبت الحس الداخلي الفردي لمصلحة الحس الموحد للوحة الراقصة الجماعية.ولكن دوماً داخل منظومة «الحركة» الخلاقة التي تأخذ كل الأبعاد الممكنة، فيدخل إلى تفاصيل الحس الظاهر والدفين للإنسان بوصفه «ذاتا» وعالما مستقلا، وبوصفه جزءاً من حياة إنسانية مجتمعية تؤثر وتتأثر، ليمتلك هذا الفن تفرده عبر ملكاته وأساسياته التي لا تعتمد فقط على عبقرية «الغريوغراف» ولكن أيضاً على الراقص الاستثنائي بعمق حسه وجسده القادر «فيزيائيا» و«روحيا» على الأداء، الذي سيشكل أساس «السينوغرافيا» في فضاء المسرح والخشبة، ولاسيما في ذلك الاشتغال على الدراما، التي اقتحمت بمواضيعها كل جوانب الحياة. وها هو «جوزيف نادج» يختار الشارع الفقير وأولئك الناس الذين لا يراهم أحد لندخل عالمهم المملوء بالأوجاع والتعب، ولكن بنفس الوقت والقوة سنرى ذلك التعاطف المتبادل بين أصدقاء هذا الشقاء الذين يقتسمون ساعات الليل لينظفوا الشوارع من الأوساخ؛ إنهم عمال التنظيفات بكل بهائهم الإنساني الذين اختارهم «جوزيف نادج» ليقدمهم لنا مع «دومينيك ميرسي» في عرض «نشيد الصباح الصغير» والذي كان الثالث بين عروض الرقص المعاصر بعد «اكرم خان» و«آرتي شوك» الذين قدمتهم احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية، العرض الذي تم انجازه في «البندقية» عام 2001 بالتعاون مع المركز الكريوغرافي الوطني لأورليان- مسرح المينة- باريس وحصل على الجائزة الكبرى للنقاد «بالماريس الرقص» عام 2001-2002 من قبل محترفي نقد المسرح والموسيقا والرقص..حيث إن الحركة في الرقص المعاصر ليست قائمة على استعراض قوة الجسد الفيزيائية فقط قدر اعتمادها على «تكنيك» الحركة ودلالاتها المعززة للحالة الدرامية، وكذلك الاشتغال بدلالتها وتفصيلها بعيداً عن المألوف، بدا طبيعيا عدم توقف الراقص عند سن بيولوجية معينة، حيث تتعدد مصادر الطاقة الدافعة للحركة أهمها قوة الداخل وغناها عند الراقص، والتي كانت بكل بهائها عند «دومينيك ميرس» الراقص المعروف المولود عام 1950 من مدرسة الألمانية «بينا باوش»؛ أبرز المؤسسين العالميين للرقص المعاصر، وقد بدأ رحلته معها منذ عام 1973، نفس تاريخ إنشاء المسرح الراقص الـ«تانز تياتر فيبرتال» ومازال يعمل إلى الآن كمساعد لها. مثلما أدهشنا «جوزيف نادج» 1957، غريوغراف العرض والذي بدأ رحلته مع الرقص في الثامنة عشرة عندما درس التعبير الجسدي والتمثيل في جامعة بودابست ويتابع مع الإيمائي «مارسيل مارسو» ليكتشف الرقص المعاصر في فرنسا ويبدأ تدريس فن الحركة منذ عام 1983 في فرنسا وهنغاريا ومازال مدير المركز الكريوغرافي الوطني الأورلياني إلى هذه اللحظة، وكانت له اهتمامات فنية عديدة مارسها خلال حياته منها الرسم والتصوير الفوتوغرافي الذي مازال يمارسه إلى الآن حيث كانت صوره الفوتوغرافية مواضيع للعديد من أعماله في الرقص مثلما استثمرها في «نشيد الصباح الصغير»، عندما شكلت أجساد الراقصين في سينوغرافيا الفراغ والفضاء المسرحي كوادر فوتوغرافية تجسد لحظات درامية لعدة مستويات حسية ملأى بمفردات الموضوع والمكان، حيث المكنسة والطاولة والكراسي، وصديقان متعبان يتوليان جمع النفايات والفضلات في الصالة الكبيرة. يتوقفان ليبدأا في اللوحة الأولى عمليات التدليك وتمطيط العضلات المنكمشة من الضغط والتعب، هي موضوع دراماهما الراقصة، التي اعتمد تكنيك الحركة فيها على الخطوة غير المكتملة لخلق توازنات بين جسدين أحدهما سيحمل الآخر أو يحتويه لتجسيد المشاركة بالهم عبر تقاسم «التعبير» و«الحركة» والتعب، محاولة أخذ موقعها في الفضاء عبر تشكيلات كتل الجسد، التي كانت تلاحق تيار الأحاسيس الداخلية في تناغم للفعل وردة الفعل وتوازنات الثقل للجسدين. لتتابع الشخصيتان استمتاعهما بالحياة الفقيرة. فيلتقطان من الأرض بقايا المترفين المستعملة المهملة والتي أصبحت مواد خام للوحاتهما التشكيلية وتحفهما الفنية، يزينان من خلالها عالمهما الفقير ويجدان حلولا لخلق أجواء فرحهما ولهوهما؛ عندما سيعثران، في اللوحة التالية، على إطار للوحة زجاجية وإكسسوارات سيتم لصقها على اللوح الزجاجي لرسم وجوه أخرى مزيفة ستخفي وتموه حقيقتهما، كشخصيات حيادية لمصلحة الكوني الإنساني، عززتها الموسيقا التي اختيرت من عدة بلدان؛ مصر مقدونيا رومانيا، ليكون «نشيد الصباح الصغير» مزيجاً من الرقي لفنون الإنسان المعاصر.
الوطن
عبد القادر-ك